Atigmedia
المصداقية والدقة في الخبر

اليقظة أولاً : قراءة جيلية مسؤولة في زمن الاحتجاجات

بقلم الدكتور عزالدين بوالنيت

بعد قراءتي لعدد من التدوينات ومتابعتي لما يجري في بلدنا في هذه الآونة، أرى من واجبي أن أدلي ببعض الملاحظات والاقتراحات بكل وضوح ومسؤولية وصراحة. وأتوجه بهذه الملاحظات، أولاً وقبل كل شيء، إلى جيلنا نحن، ما دام الأمر الآن أضحى يتعلق بمطالب جيلية تتخذ من الفضاء الرقمي منطلقاً لها.

إذا كنا حقاً نريد مصلحة بلدنا وحماية مستقبلنا، فعلينا أن نتحلى باليقظة ونبتعد عن الرومانسية الفجة في التعامل مع ما يجري أمام أعيننا. وهذا مطلب ملحّ، بغض النظر عن جمال مشهد التظاهر والاحتجاج وما يحركه فينا من تطلعات قديمة ومن متعة في مواجهة رموز السلطة.

وأول مظهر من مظاهر الحزم المطلوب منا، هو أن نقرّ بأن مطالب العديد من المجموعات الافتراضية تتسم بقدر من السذاجة والتفكك والضمور السياسي يدعو إلى القلق، لأن هذا الضمور يعكس إفلاساً واضحاً لمؤسسات الوساطة التقليدية في بلورة خطاب ووعي سياسيين ناضجين يتيحان مشاركة فعلية لشرائح واسعة من المواطنين. هذه الهشاشة السياسية تجعل أي حراك عفوي فريسة سهلة لمحاولات التوجيه أو التلاعب الخارجي.

وهنا، أدعو الجميع إلى أن يستدعوا بإلحاح إلى طاولة النقاش مفهوم الثورات الملوّنة، وأن يقرأوا ولو الشيء القليل حولها، لأنها أصبحت واقعاً متكرراً في عدد من مناطق العالم، وغالباً ما تُستعمل لتفكيك الدول وتغيير أنظمتها تحت ذرائع متعددة. ومن خصائص هذه الثورات أن آلياتها متشابهة وتُطبّق وفق مراحل محددة ومتكررة، وقد أصبحت أكثر فاعلية اليوم مع توسّع استخدام البيانات الضخمة (Big Data) وأدوات التواصل الحديثة.

ولعل من المؤشرات الدالة على وجود “هندسة خفية” في بعض التحركات، ذلك الزخم الإعلامي المنسق الذي نلاحظه في كبريات وسائل الإعلام الغربية، خصوصاً في أوروبا والولايات المتحدة، والتي تتابع ما يجري في المغرب بكثافة لافتة، بينما تغض الطرف تقريباً عن أحداث أكثر عنفاً ودموية في دول أخرى مثل فرنسا أو مدغشقر.

هل نحن أمام عملية “تسخين للطبق قبل الشروع في إعداد المرق المناسب”؟

ولماذا نلاحظ أن بعض القنوات الأمريكية تُركّز بشكل غريب على البنيات التحتية المغربية، خصوصاً الموانئ والأسطول البحري، بأسلوب استنكاري، بينما تُشجّع بعض الأصوات الداخلية على مهاجمة المنشآت الرياضية والمشاريع الكبرى؟

أليس في ذلك محاولة لإبعاد الأنظار عن الطبيعة الحقيقية لما يُطبخ في الكواليس؟

علينا أن نكفّ عن تجويف النقاش والاكتفاء بمدح النوايا الحسنة للمحتجين، فالمسألة أكبر من ذلك. من الواضح أن هناك من يحاول توجيه النقاش العام بعيداً عن جوهر الرهانات الحقيقية التي تقلق بعض الأطراف الخارجية، وهي النهوض المغربي في مجالات البنية التحتية، والصناعات البحرية، والتنمية الرياضية، والاستقلال الاقتصادي.

ما يزعج تلك الأطراف ليس حكومة بعينها، ولا مشكل الماء أو الصحة، بل قدرة المغرب على بناء نهضته بسواعد أبنائه وفاعليه الوطنيين. وهنا، تتضح الرسالة: كل وسيلة مشروعة بالنسبة لهم من أجل إبطاء هذا الصعود المغربي.

لذلك، يجب أن نعي أن الشارع المغربي، رغم عفويته، ليس محصناً ضد محاولات الاختراق. فالتاريخ يُظهر أن “صنّاع الثورات الملونة” لا يهمهم عدد الضحايا أو عدالة المطالب، بقدر ما يهمهم إحداث الفوضى وزرع الشك وإضعاف مؤسسات الدولة. حتى في الحالات التي لا تقع فيها خسائر بشرية، يسعون إلى خلق رواية “الدم المطلوب” لتغذية آلة التضخيم الإعلامي.

من هنا، علينا أن نكون منصفين في تقييم ردود الفعل الأمنية. فالدولة المغربية لم تلجأ إلى وسائل تفريق عنيفة كتلك التي تُستعمل في دول الغرب (كلاب مدربة، خراطيم مياه، قنابل مسيلة للدموع أو رصاص مطاطي). كما أن التوقيفات التي تمت، حسب ما يبدو، كانت محدودة وفي إطار جمع المعطيات والمعلومات، ولا يمكن توصيفها باعتقالات جماعية كما يروّج البعض. فالمحتجون، إذا أرادوا ممارسة حقهم في الاحتجاج، عليهم أيضاً أن يتحملوا مسؤولية اسمية عن هذا الحق في الواقع، لا أن يختبئوا خلف مجهولية العالم الافتراضي.

لقد لاحظنا جميعاً صدور بيانات “منظمات غير حكومية دولية” بعناوين مشبوهة وسياقات متسرعة، مما يستوجب الحذر واليقظة، ودعوة الجميع إلى التحقق قبل الترويج، لأن مثل هذه البيانات كانت في حالات كثيرة “الشرارة” التي تُستعمل لتبرير التدخل الأجنبي أو الضغط الخارجي.

في المقابل، لا بد من التنويه بكون الدولة وأجهزتها ظلت متحكمة في أعصابها، ولم تسقط في الفخ الاستفزازي الذي حاول البعض جرّها إليه. لقد تعاملت بكثير من الحذر والاحترافية، وهو ما ساهم في تفادي الانزلاق إلى مواجهات مفتوحة أو سيناريوهات كارثية كما حصل في تجارب قريبة.

أما إقليمياً، فليس سراً أن هناك حرباً ناعمة تُشنّ على المغرب بهدف تعطيل مساره الإفريقي الصاعد، وأن جارتنا الشرقية، كعادتها، تتحرك في هذا الملف بغباء سياسي واضح، ما سيؤدي بها هي الأخرى إلى نتائج وخيمة إن لم تتدارك الموقف.

إن ما نحتاجه اليوم، نحن جيل “ز”، هو وعيٌ وطني ناضج ومسؤول، يُفرّق بين المطالب الاجتماعية المشروعة وبين محاولات التجييش الخارجي. نحتاج إلى نقدٍ ذاتي شجاع لمؤسسات الوساطة والأحزاب، وإلى تجديد الثقة في الفعل السياسي الوطني، لا إلى الارتماء في أحضان العدمية أو الخطابات المستوردة.

فحماية وطننا لا تكون بالصراخ في الشارع فقط، بل بالوعي، وبالتحليل الرصين، وبالإيمان بأن الاستقرار شرط للتنمية، وأن الإصلاح الحقيقي لا يأتي من الخارج، بل من داخل ال

مجتمع الواعي بمصالحه العليا.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.