Atigmedia
المصداقية والدقة في الخبر

المناسبات الوطنية: دروس وعبر في قيم المواطنة والعيش المشترك (الجــــــزء الأول)

تأملات ابراهيم عفيف.
…. وتستمـــر الرحلة التأملية، ويستمر معها النبش في الذاكرة البعيدة، لإعادة إحياء الزمــــن الجميل ….زمن الطفولة، في قرية ماسية صغيرة من حيث عدد الساكنة، لكنها كبيرة وعظيمة بتاريخها وبرجالاتها الذين خلدهم التاريخ بمداد من ذهب….بعد ذلك السفر الجميل والنوستالجي إلى أيام سوق ثلاثاء ن ماست، وبعدها بيادر قرية تاسنولت….قررت أن أتوقف بكم اليوم وقفة أولــــى مع ذكريات جميلة، سنعيد معها شريط أحداث كانت تتكرر كل عام في شهر مارس، وكان أهــــل القرية ينتظرونها ويعدون لها بطريقتهم الخاصة….إنها لحظة الاحتفال بعيد العرش المجيد في ساحة بنابــــور، وفق طقوس اجتماعية وفنية يتجسد من خلالها حب الوطــــن غير المشروط، والعمل الجماعي التضامني في أبهى الصور….

من منا نحن جيل السبعينيات والثمانينيات لا يتذكر اليوم لحظات الاحتفال التي كانت تدوم ثلاثة أيام إلى أربعة؟…احتفالات بعمق الوطنية الصادقــــة، وبعمق المحبة والتآخي بين أفراد البلدة الواحدة. تنطلق مختلف العمليات الإعدادية لأيام عدة قبل اليوم الرسمي…ومن منا لا يتذكر ذلك اليوم الرسمي، يوم 03 مارس من كل سنة…استعدادات يقوم بها رجال القرية بعيدا عن أعين الجميع….متى ؟ وكيف؟ ومنذ متى؟…..لا أحد كان يعرف…كل ما كنا نعرفه هو أننا نجد أنفسنا يوما قبل افتتاح الأيام الاحتفالية مجتمعين بالساحة، الكل كان يعرف دوره….أصبحت الأمور تمر من جيل لجيل، واصبح الجميع يعرف أبجديات العمليات من ألفها إلى يائها….الرجال يحضرون ذلك العمود الطويل الموجود دوما في الساحة، ويعيدون صباغته باللونين الأحمـــر والأخضر….لوني العلم الوطني….في انتظار تثبيته في وسط الساحة وفي أعلاه راية للوطن المرفرفة …..بينما يتوجه رجلان أو ثلاثة إلى واحة في المدشر تدعى تلات نصالح talat n salh معروفة بالنخيل الكثيف ….يقومون بقطع أوراق النخيل التي كنا نتسابق لجرها للساحة، وتكديسها في أحد أركانها….في انتظار مجئ فريق ثالث مكلف بتوضيب المكان، وصناعة أبواب على شكل أقواس توظف فيها تلك الأوراق وأعمدة خشبية….بين الفينة والأخرى تسمع أهات أحدنا حينما ينال منه شوك النخيل….كم كان ذلك الإحساس مؤلما…كنا نستمتع برؤية الأيادي المحترفة وهي تعد المكان كأنها تجهز عروسا ليوم عرسها….

بينما ينشغل الكبار بإعداد الساحة، كنا نتفنن في صناعة لعبة خاصة بهذه الفترة…كنا نسميها فرواضــــو frwado أي ” مروحة تدور بفعل الرياح” …كنا نوظف أوراق النخيل الخضراء، بشكل كان الجميع يتقنه لصناعة تلك اللعبة على شكل علامة +، بعدها نأخذ شوكة من أشواك النخيل ونضعها في مركز ثقل تلك اللعبة….كنا نطبق دروس الرياضيات والفيزياء ولم نكن ندري…. يبدأ الجميع بالجري ليرى أمامه مروحته النباتية تدور بسرعة متناسبة مع سرعة الجري….من كان ذا وزن ثقيل تكون دورات مروحته بقدر بطء حركته….آه، لو كنت أعلم ما الذي يدور في أذهان آبائنا وهم يتابعوننا نجري أمام أعينهم….تستمر الاستعدادات، ويستمر معها ترقب جديد الموسم….هل سنرى مسرحية جديدة من إخراج وتشخيص أبناء البلدة؟ هل سنرى مجددا ذلك الرجل ددا إبراهيم الذي يصنع لباس الدركي بإتقان ويتجول به في الساحة؟….أما رقصة أهياض بطقوسها فهي فقرة رئيسية لا أحد كان يجادل في حضورها القوي طيلة أيام الاحتفالات….كم كانت لحظات الانتظار تلك جميلة….وكم كانت الأحاسيس الإنسانية والعلاقات الاجتماعية التي تحس بحرارتها بين أهل البلدة، طيلة أيام الاحتفال رائعة…كنا نحس أننا إزاء عرس عائلي، كلنا معنيون بالفرحة…في الجهة المقابلة، أي في البيوت….كانت الأمهات يستغلن هذه المناسبة لمطالبة الأبناء بإحضار بعض من أوراق النخيل الطرية …التي كان لونها يترواح بين الأصفر والأخضر، والتي تكون بالقرب من ثمار النخلة….كانت توظف لصناعة تسكيت Tisguit، التي تشبه صحنا كبيرا….كم كانت والدتي أطال الله في عمرها بارعة في صنعها… كنت أستمتع بالجلوس أمامها وهي تدخل أداة حادة تسمى أشفي achfi لإحداث ثقب وإدخال تلك الأوراق مكانه…..كل شيء كان جميلا….

في الحلقة المقبلة سنعيد رسم بعض اللحظات التي ما زلت أتذكرها بدءا ببراد الشاي أمام ذلك العمود المنتصب وسط الساحة وصولا إلى الرقصات الفنية المحلية الجميلة…. الإنسان القروي لم يكن يترك أية لحظة دون أن يعيشها وفق طقوس تبرز عمقه الإنساني النبيل….

إلى تأمل آخـــر، أرجــــو لكم ليلة رمضانية كلها أحاسيس إنسانية …. إلى لقاء آخر بحول الله
يتبع….

إبــــــــراهيم عفيف استاذ مفتش تربوي وفاعل جمعوي.
سوس ماســـــة
10/05/2020

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.