ماهي الفرص التي تتيحها لنا حملة مقاطعة بعض ماركات المنتوجات وبعض الشركات ؟ أكيد أنها تتيح للمتتبعين وللباحثين في شؤون السياسة و الاقتصاد والمجتمع بالمغرب، فرصا وأوراشا للبحث والدراسة والتأويل. فالمتتبع لهذه الحملة منذ انفجارها داخل الفضاء الازرق منذ أن كانت فكرة افتراضية صغيرة حتى أصبحت ممارسة فعلية واقعيا، سيقتنع تماما أن الفكرة أضحت أسلوبا احتجاجيا مدنيا بما تحمل الكلمة من معنى في الحقل السوسيولوجي . لفهم حيثيات هذه المقاطعة لابد من ربطها بسياقها السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى لا نعوم في سرد هذا السياق بحكم ترابط الاحداث وتشابكها، يمكن حصره ، على الأقل، في مدة زمنية تبدأ من مرحلة البلوكاج الحكومي إلى وقتنا هذا، أي بين زمن البلوكاج وزمن المقاطعة .
خلال هذه المرحلة وقعت أحداث وانتفاضات ووقائع كثيرة أهمها حراك الريف الذي دام حوالي سبعة أشهر كلها احتجاجات وتظاهرات شعبية سلمية كانت مدينة الحسيمة مسرحا لها يطالب المواطنون من خلالها بتحقيق رزمانة من المطالب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية…ولم تنجح الدولة في اقناع المواطنين وتحقيق مطالبهم الا بسن مقاربة أمنية انتهت باعتقال العديد من الشباب ورموز الحراك والزج بهم في السجون..البعض منهم تم الحكم عليهم والبعض لازال يحاكم خاصة الذين تم ترحيلهم إلى البيضاء.
بعد حراك الحسيمة اهتزت مدينة جرادة بعد موت شابين في مناجم استخراج الفحم، ودخلت ساكنتها في حراك مشابه لحراك الحسيمة هو الآخر عرف نفس المسار بعد فشل الحكومة في ما سمته بالحوار مع المتظاهرين انتقلت إلى مرحلة القمع والمنع والاعتقالات والسجون.
مابين الحسيمة وجرادة، عرفت مدينة زاكورة بعض المظاهرات والاحتجاجات سميت في حينها بحراك العطش بسبب قلة الماء الصالح للشرب، هي الأخرى انتهت باعتقال الشباب ومحاكمتهم … من حراك الثروة السمكية و حراك الماء ثم حراك المناجم، دون نسيان فاجعة موت نساء شياظمة باقليم الصويرة أثناء ازدحام وتدافع حول عملية توزيع مساعدات غذائية ، يتضح أن المغرب عبارة عن خريطة انتشار الفقر وسوء توزيع الثروة. السؤال المنطقي هو كيف فهم نجاح المقاطع على ضوء هذه المعطيات ؟
جميع هذه الحراكات الشعبية السلمية انتهت كلها بالاعتقالات والمحاكمات والسجون، كأن الدولة تريد ارسال رسائل حازمة لعموم الشعب ، وهو ما يعبر عنه بعض الوزراء بفرض هيبة الدولة حين تتم مسائلتهم في البرلمان حول الافراط في المقاربة الامنية أو استعمال العنف أو المنع…الشعب هو الآخر فهم هذا المنطق الفيبري في استعمال العنف المشروع للدولة، واستوعب أيضا أن الدولة آخذة في التراجع عن بعض المكتسبات الحقوقية والسياسية…وأن حيز الحرية والتظاهر السلمي بدأ يتقلص ويسترجع موقعه لمرحلة ما قبل 2011.
هكذا أدرك الشعب أن الشارع لم يعد فضاء للاحتجاج والتعبير الحر عن الغضب من قرارات وبعض التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية …ثم ابتدع فكرة المقاطعة الاقتصادية للتعبير عن موقف سياسي. واستعمال واستغلال حرية التعبير في المواقع التواصل الاجتماعي التي كانت تلعب دور التعبئة والاتصال في مرحلة ربيع 2011 وحراك الحسيمة وجرادة…. فمقاطعة بعض السلع والشركات لا يؤدي الى متابعة قضائية ولا إلى اعتقال ولا إلى السجن. فالمواطن المقاطع لن يتم تصويره في الشوارع ولا في منصات التجمهر ولا أي شيء . له الحق أن يشتري المنتوج الذي يريد. إذن فهو احتجاج ناعم أو بارد لا يكلف شيئا .ولكن له فعالية كبيرة لأنه يتسبب في خسائر مادية واقتصادية للمستهدفين من المقاطعة . ولكي يكون هذا الاحتجاج عن طريق المقاطعة ذو معنى سياسي ويعطي نتائج فإنه يبدو من خلال اختيار ثلاث منتوجات احداها يملكها رئيس حزب وفي نفس الوقت وزير ثم شركة أخرى تمتلكها رئيسة الباطرونا المغربية، فيبدو أن المقاطعة تحمل رسائل وتعبير سياسي واضح. وبالتالي فهي سلوك احتجاجي يخفي مطالب أخرى تتجاوز مطلب الاسعار وما شابه ذلك…يسمي البعض ذلك بأن الشعب يطالب بفصل السلطة عن الثروة …
إلى هنا الامور عادية …الذي يحمل الغموض والخطورة في قضية المقاطعة هاذه، ليس هو الماء والحليب والوقود وإنما امتداداتها ومصيرها ..هل هذه المقاطعة هي تمرين فقط لما هو قادم ؟ هل يتدرب الشعب لامتلاك الوعي في تطبيق اسلوب المقاطعة في الانتخابات مثلا أو مقاطعة الدراسة أو مقاطعة السياسة والاحزاب أو بعض المؤسسات …للاحتجاج على قرارات وقوانين يرى الشعب أنها مجحفة ….